الشيخ العلاوي - منزلة الإسلام عند المستشرقين

من ذا الذي لم يدرك كون الإسلام كان نبراسا لهذا الوجود ومركزا لدائرة الفضائل والجود ؟ ‏إليه انتهت المكارم بأجمعها, وبه زالت المآثم من أصولها, فكم أزاح عن القلوب أقفالها, وعن البصائر غطاءها, وعن العقول عقالها, إلى أن استنارت به الربوع وانتظمت به الجموع.


هكذا والله كان الإسلام, ويبقى مادام ‏كتابه ينطق عليه بالحق, إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولو كره المنافقون الذين يريدون أن يلحقوا به من النقص ما كان بهم أحرى, كل ذلك "حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" (البقرة: 109).

تطاولت فيه الألسن, وخابت فيه الظنون, وظهر فيه ما لم يكن في الحسبان أن يظهر. ومن غريب ما ظهر أن تجد المسلم يحمل على دينه مع من حمل مستعملا كل سلاح لحطمه, لا سامح الله من هذا نعته.

ما كان والله في الحسبان أن يظهر الله من بين أهل الملة الحنيفية من يصطبغ على غير صبغته, أو يعمل عل نقص دينه وملته. فبعد أن يتصور مثل ذلك لولا ما أثبته لنا الواقع حتى رأينا وسمعنا كما سمع غيرنا بما يشعر بذلك وبما هو أكثر منه إن دام الأمر مسترسلا. ‏وإني لا أرى ما يمنع وجود الاسترسال إلا أن يشاء الله, "وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً" (الأنعام: 80).

فيا للأسف... أيحسن بالمسلم الترامي على ما لا يتفق مع دينه؟ أم يجمل به أن يقول الدين عرضة لأهله؟ كل هذا قد يرتكبه المسلم وهو يقول انه مسلم "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون: 14).

وعلى كل حال فلتثبت أيها المسلم مكانك, وتحقق أن للإسلام شأنا لا يستفزك عنه التمويهات الوقتية ولا الترهات العصرية. فالإسلام لا يمنعك أن تأخذ من الشيء أحسنه, وهو ما يتفق مع المروءة ويتنظم مع العفاف, إنما يمنعك الاسترسال في الملاذ البهيمية, والشهوات النفسانية, شفقة منه عليك, فلتعتبره أنه أولى منك بك, ولا تتهمه فيما يختاره لك, فإنه مبرأ عن تهمتك له بما يشهد به الله ويشهد به العالمون.

لا خفاء في كون الإسلام على صفة ما ذكر عند كل ذي إدراك معتبر إلا من طبع الله على قلبه بطابع الخذلان فلا يكاد يفقه قولا. ‏ومن أراد أن يحقق منزلة الإسلام في قلوب المفكرين من الأجانب فليتتبع ما كتبوه في ذلك خصوصا منهم المستشرقين, ‏كتبوا ولا زالوا يكتبون في محاسن الإسلام وفي رفعة شأنه كل ذلك بما تمحص عندهم من الحق البين, فقالوا وهم في ذلك على خبرة أن الإسلام له الحق أن ينسب لنفسه كل شرف, وهكذا تجد عباراتهم تترادف بما مضمونه ما سلف.

ومن وقف على كتابة هؤلاء الجهابذة يرى أنهم قد خدموا الإسلام بأبلغ ما يخدمه به محبوه وناصروه, لينصرن الله من ينصره بالغيب. ‏وإليك البعض من ذلك...

ذكر السيد (غوستاف لوبون - Gustave Le Bon) في كتابه (حضارة العرب) ما نصه:
  • "إ‏ن للإسلام الحق بأن ينسب لنفسه هذا الشرف العظيم وهو كونه أول ديانة أوجدت بهذا العالم الإقرار الخالص بمعرفة الله ومن هذه الوحدانية الخالصة نتجت بساطة الدين الإسلامي, وفي هذه البساطة يجب علينا أن نفتش على سر قوة الإسلام لأنه زيادة على سهولة فهم تعاليمه فإن الدين الإسلامي لا يعرض على متبعيه ولو واحدا من تلك الأسرار الغامضة والمبادئ المتناقضة الكثيرة الوجود بالأديان الأخرى والتي ‏تلطم العقرب أي لطم...
    الإسلام هو عبارة "اله واحد" وتساوي كل الناس عند الله والمحافظة على فرائض قليلة ثم الجنة لمن قام بها والنار لمن صد عنها فلا شيء أبين من هذا ولا شيء أبعد على الالتباس, فأول مسلم لاقيته وفي أية طبقة كان إلا ويعلم العلم الثابت ما يجب عليه اعتقاده وفي مقدرته أن يبين لك بكلمات وجيزة واجبات الدين الإسلامي. ‏وأما النصراني إذا أراد الترامي على بيان التثليث أو تفهيم معنى استحالة الخبز والخمر إلى جسد ودم "المسيح" أو ما شابهما من الغوامض فلابد أن يكون عارفا بعلم اللاهوت خبيرا بدقائق علم المنطق.

    فوضوح الإسلام بهذه الصورة المتناهية وأمره بالعدل والإحسان كان حقا سبب انتشاره بالعالم, فمثل هذه الصفات تبين كيف أسلمت تلك الشعوب التي بعد أن قامت أحقابا على أول دين النصرانية مثل أقباط مصر انخرطت في الدين الإسلامي عندما عرفت تعاليمه العالية والحالة انه لم يمكن أن نذكر تنصر فرقة واحدة من المحمديين غالبة ‏أو مغلوبة.
    ولا زال الدين الإسلامي دون غيره من الأديان يمتد وينتشر بكافة أقطار العالم وكل يوم يزداد وينمو عدد متبعيه والحال أنه لم يعنه على ذلك أي نظام مخصوص مثل جمعيات المبشرين عند النصارى, فكل مسلم يباشر بث الدعوة, ولا يلزمه للقيام بهذه المأمورية أي تنشيط كان لا معنوي ولا مادي, بل الباعث الوحيد له على ذلك هو رجاء ثواب الآخرة, فحيثما تراه منكبا على أشغاله الشخصية ولم يغير من سير حياته المعتادة شيئا فهو يسعى في إسلام من حوله ويستعين على مرغوبه بملازمة الوقار والأخلاق الحسنة أكثر من اعتماده على فصاحة اللسان والوعود الدنيوية. ومن المحقق الذي لا مراء فيا هو أن كل من اعتنق الدين الإسلامي لا يرتد عنه أبدا فيما بعد".

فتأمل يرحمك الله هذه الشهادة وتتبعها بكل إمعان لأنها عزيزة في بابها, ولأن الشاهد بذلك غرضه تحميص الحق, وليس هو من أفراد المسلمين حتى يتهم عند المقابل, أما من حيث عقيدته في الإسلام فلا يعدم ثوابها من الله.

وانظر أيضا مقالة لأحد كتبة فرنسا المشهورين المسمى (تربوري - (?) TRBR) فقد عقد فصلا قابل فيه بين الدين الإسلامي وغيره في إفريقيا, قال ما نصه :

  • "إن تكاثر عدد المسلمين في إفريقيا ناشئ عن أسباب عديدة :
  1. كون الشرط الإسلامي في غاية البساطة لأن كلمة الشهادة ملائمة للعقل أكثر من شروط غيره التي هي أشبه برموز مشوشة مختلطة.
  2. وجود الإخفاء الديني في الإسلام الذي هو في حكم رابطة عمومية فليس فيه فرق كبير بين طبقات الخلق كما في غيره.
  3. كون الحقوق في الإسلام يتساوى فيها الجميع بلا تمييز.
  4. كون الدين الإسلامي يبيح تعدد الزواج المعدود من جملة وسائل التسهيل للمضطرين إلى تعداده لعقم أو غيره.
  5. كون الدين الإسلامي يحرم المسكرات تحريما باتا.
    ثم قال: يعترف أكثر الكتبة الباحثين عن إفريقيا الذين لا يمكنهم أن ينظروا إلى الدين الإسلامي بنظر المحب المخلص بتأثير هذا الدين على الزنجيين من جهة الأخلاق والأدب وأنه أنقذهم من عدة أمور ضارة. ‏أنقذهم من الاعتقادات الوثنية السقيمة, ‏أنقذهم من العادات الوحشية وهي ذبح قربان من بني جنسهم لبعض أشياء يزعمونها معبودة, ‏أنقذهم من نفوذ السحر والسحرة, ‏وألقى في أذهانهم الإعتقاد بمعبود حقيقي يستحق العبادة قلبا ولسانا ولأنه واحد عادل. ‏عمم بينهم اللسان الذي نزل به القرآن ووسع أذهانهم, وأحسن تربيتهم. ‏زكى القرآن أخلاقهم حتى أصبح الفرد منهم يشعر بأنه اكتسب معنى الإنسانية وتجرد من الوحشية, إنه كان مملوكا فأعتق وأدخل لعالم جديد...". 

ثم انظر أيما القارئ الكريم ما قاله (اكلمانسو - Clemenceau) أحد عظماء فرنسا, قال:
  • "إن الدين الإسلامي دين قريب من الأذهان, وهو معقول أكثر من غيره, لذلك لا نرى وثنيا يجاوز مسلما فيرى ما هو عليه من صفاء النية, وطهارة القلب, والتوكل ومعاونته لأخيه, إلا اختار دينه على ما هو فيه من البساطة على تلك المعابد المزخرفة والزينة المبهرجة, ولم تخدعه الرشى والأموال". 

وهاك ما قاله العلامة (ليثنر - Dr. Gottlieb Wilhelm Leitner) الانجليزي في كتاب ديانات الأمم وعقائدهم, قال:
  • "إن الدين الإسلامي هو الدين الفطري الذي دعت الأنبياء أقوامها إليه, فسائر الأديان الإلهية مندمجة فيه, وكان محمد يود نفع الأمم كافة بهذا الدين القويم, لا قومه خاصة, فدينه إذا هو العامل الوحيد لتهذيب الجنس البشري وتمدينه تمدينا علميا عمليا, ولولاه لبقيت الملايين من الجنس البشري تائهة في بيداء الهمجية والتوحش, ولما كان لهذه الأخوة الإسلامية من وجود".

وأما ما قاله أستاذ جامعة جنيف في (‏سويسرا) (مونتيه - Édouard Louis Montet) من محاضرة مسهبة ألقاها في باريس (1910) عن حاضر الإسلام ومستقبله, وإليك ما نصه:
  • "الإصلاح الإسلامي كان مبدؤه دينا محضا, فقد استأصل محمد (ص) الوثنية من عقول مواطنيه, وخلصهم من دين خشن لا يلاءم زمنهم ودخل بهم في حالة أدبية وتمدين أرقى من تمدينهم الماضي بكثير, كل ذلك فعله في مكة. ‏ولما انتقل كرسي إصلاحه إلى المدينة نشأت فيه عاطفة جديدة, وهي عاطفة وطنية عربية تعتبر كمبدأ للتوحيد السياسي للبلاد العربية تحت سلطة دينية, وسياسة متحدة, وهنا يرى الباحث أصل السلطتين الدينية والمدنية التي هي من مميزات التمدين العربي, وقد كانت من أسباب عظمته وبلوغ قمة مجده, كما أنها أيضا من أسباب ومقررات انحطاطه. ‏فتبين مما تقدم أن انتشار الإسلام على عهده يرجع إلى تعاليم القرآن والحديث, والفتح العسكري, والتوحيد السياسي للعالم العربي, وهذا التمييز إنما هو أساس أصلي لدى كل من بحث في التاريخ الديني".
    ثم قال في محل آخر من محاضرته ما خلاصته: "إذا نظرنا إلى الإسلام نظرة عمومية ولو في قسم من أقسامه نجد أنه يمثل نظاما سياسيا وأدبيا معا, إن للإسلام تمدينا ترجع أصوله إلى القدم, وبعبارة أخرى هو نتيجة تمدن طويل بلغ قديما ذروة الرقى في الشرق والغرب, ثم انحط وهبط ولكنه لم يتلاش ولم ينعدم وهو يحاول الآن استرجاع ماضيه المجيد ومركزه الأول".

ولو تتبعنا ما ورد في هذا الباب من أقوال الحكماء الغربيين فيما يرجع للتنويه بشأن الإسلام وبرفعة قدره, لطال بنا الحديث, لأن كلامهم في هذا الباب ليس بالقليل, وما ذكرنا هذه الجمل إلا التفاتا لمن ليس له خبرة بما يكتبه المنصفون من الأجانب عن الإسلام وما هي مكانته عندهم. ‏أما المتهورون من غير هؤلاء فلا يعبئ بحديثهم لأنهم لم يبلغوا من العلم والتحقيق مبلغ هؤلاء المشار إليهم, وما ذكروا ذلك إلا تمحيصا للواقع حسبما قدمنا. 


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- الإسلام, العدد 2 بتاريخ 1926/12/30.

تعليقات