الشيخ العلاوي - أسلوب التذكير

كل مسلم مخلص في إيمانه إلا وهو يروم الإصلاح لقومه وبني جلدته. أما من ترقت مداركه وعلا كعبه فقد يروم الإصلاح للعالم أجمع, أولئك الذين هدى الله. قال تعالى لخاتمتهم "فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" (الأنعام: 90). وقد جمع القرآن من حسن أساليب تذكيرهم وكيفية دعوتهم إلى الله القدر الكافي في اتخاذه نموذجا في أسلوب دعوة الخلق إلى سيبل الرشاد.

وكيفما تصفحنا سيرهم وتتبعنا أمرهم ونهيهم إلا ونجد محورها تدور عليه أقوالهم وأفعالهم ‏لا تخرج عما أجمل في هاته الآية الشريفة المنزلة على خاتمتهم (ص) وهي قوله تعالى : ‏ "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125). فيؤخذ مما تضمنه التنزيل أنه تعالى اعتبر الناس أزواجا ثلاثة:

الطبقة الأولى وهي الخاصة لا تعمل في أفرادها إلا الحكمة, فمن بتها فيهم انقادوا إليه وعملوا بأمره ونهيه, ومن أراد أن يسوقهم بغير الحكمة فقد رام محالا, وهم المقصودين من صدر الآية.

الطبقة الثانية لا تعمل فيها إلا الموعظة الحسنة المتألفة من تبشير وتحذير, ومن جملة كونها حسنة أن يعظ ا‏لواعظ نفسه مع من يعظ, ومن رام أن يقود هاته الطبقة بغير الموعظة الحسنة فقد رام محالا ‏أيضا.

الطبقة الثالثة أهل الجدل وهي التي أعيت المرشدين على اختلاف طبقاتهم من لدن آدم إلى يومنا, وهكذا تبقى ما بقي الدهر, إلا أن الحق سبحانه وتعالى أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يفتح معهم طريقا للمجادلة غير أنه قيدها بالتي هي أحسن.

نعم قد يقول القائل, أنه فتح له باب السيف أيضا, فأقول إن السيف قد كان و‏لكنه جاء لعارض ينبئك عنه قوله جل شأنه : "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" (الحج: 39), أما الدعوة التي لم تكن لعارض هو ما سبق من قوله : "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125). ونحن مهما أردنا أن نسير على غير ما انتهجته التعاليم الإلهية فالغالب أن يكون حظنا الحرمان من الغاية التي نحاول الحصول عليها لا قدر الله.

أجل, في الناس من لا تعمل فيه إلا الغلظة, ولكن لا يبعد أن يكون فيهم من تعمل فيه الملاينة وإسداء النصائح بألطف أسلوب وألين عبارة وهو الغالب والمعول عليه في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقبل ذلك ينبغي لنا أن نحدد معنى المعروف ومعنى المنكر بالحد البين والشرع الصريح, أعني المجمع على منكوريته المعروف من الدين بالضرورة, إلا لكونه يرق في نظر زيد, أو لم يستحسنه عمرو, أو توقف فيه بكر, إذ كل من زيد وعمرو وبكر محكومون للشرع لا حاكمين عليه, ولهذا ينبغي للإنسان كائنا من كان, أن لا ينكر إلا ما أنكره الشارع لا ما استثقله هو بطبعه أو كان من قبيل المختلف فيه, أما في حد ذاته فحقه أن يرتكب العزائم, وهكذا إن كان يريد الصلاح لنفسه والرفق لأبناء جنسه, بناءً على أن "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات", وفي المشتبه حق الإنسان أن يتحرى لنفسه وهناك محل النزاع, لأن الناس من يدخله في دائرة المكروه ومنهم ومنهم...

وكل هذا ما يفعله المتحري لنفسه بدون ما يحلل ولا يحرم في دين الله, ولهذا كثير ما يتوقف المجتهدون في بعض المسائل من جهة إلحاقها بأحد الأصول المتفق عليها تورعا منهم وخشية أن يتقولوا على الشرع ما لم يقله, قال جلَّت حكمته :‏ "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (المائدة: 47).

وحقيق بمن يتعظ بشبه هذا أن لا يتسارع بالحكم على الشيء قبل أن يعرف ما مراد الله فيه, وكثير ما تلتبس الحقائق على وجود أمثالنا, وكيفما كان الأمر فان الإنسان محتاج إلى كثير التثبت خصوصا من أراد التصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيكون أحوج الناس لمثل ذلك, ويزيد بسعة الاطلاع, ومن لم يكن كذلك رد من الحق أكثر مما بيده غالبا.

ذكر (أي الكاتب, الشيخ العلاوي) في القول المعروف ما نصه : "‏ينبغي لمن تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتصور أولا معنى المعروف ‏ومعنى المنكر ويحققهما بالحد الواضح والشرع الصريح لئلا يقع في مهواة الانعكاس, ومن أجل ذلك تورع أكابر العلماء من القول في دين الله بغير نص صريح, وما هو كالصريح. نعم يجتهد المجتهد لنفسه فيما لا نص فيه بدون ما يلزم غيره أن يذهب مذهبه, إنما يحكي رأيه فيه لا غير. ولهذا تعددت الطرق في الفروع والحمد لله على اتحادها في الأصول, وكل ذلك من اليسر في دين الله كما قال عليه الصلاة والسلام: "خيرُ دينِكم أيْسَرُه, وخيرُ العبادةِ الفقهُ". ومن لا فقه له يمتنع عليه القول في دين الله. ذكر ابن عبد البر عن عطاء الله رضي الله عنهما أنه قال: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس, ومن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي هو في يده".

وخلاصة ما قدمناه تنحصر في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به, رفيق فيما ينهى عنه, حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه, فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه".


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري-  أسلوب التذكير, العدد 3 بتاريخ 1927/01/05

تعليقات