الشيخ العلاوي - بيان لا لبس فيه وإيضاح يُعتمد عليه

كثيرا ما يشاع ويذاع من كون "البلاغ الجزائري" لم يؤسس إلا لأ‏جل حماية الطرقيين كيفما كانت صبغته, سواء عليهم استقاموا على الطريقة أم انحرفوا عن الدين, هذا ما قد تنطق به بعض الألسنة وتسبق إليه بعض الظنون. 
ونحن نتبرأ لله من هاته التهمة, ونستعيذه سبحانه وتعالى من مثل هاته الوصمة, ونقول بكل صراحة أن "البلاغ" لم يكن ولن يكون أبدا ليحمي من لم يحم شرع الله, ولا ليتولى من أذل الله, فالطرقيون كغيرهم من سائر أفراد الأمة لا يخلوا أن يوجد من بينهم المصلح. ولا يبعد أن يكون فيهم المفسد, غير أن الرذيلة حقها أن لا تتجاوز إلى غير مرتكبها, لأن الجمع لا يؤاخذ بجريمة الفرد منه.

وهكذا قاعدة القياس المرعى أن لا يحكم على الجنس بحكم النوع, حتى يلزمنا على ذلك أن نسترذل مذهب القوم من أصله بسقوط بعض الأفراد المنتمين إليه, فنأخذ في ثلب أعراض من لم نعرفهم قياسا على من عرفناهم بدون تحاش ولا استثناء, الأمر الذي لم يسمح لأي مؤمن الإغضاء عنه, خصوصا من كان يعلم مكانة المذهب في الدين ويعتقد أن أهله هم خاصة الأمة, ومصابيح الدين, ولن تخلو الأرض من ينتمي إلى الصلاح إلى يوم الدين.

أولئك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الحافظون لحدود الله فبالطبع ينصب نفسه وقاية لأعراضهم وابتغاء لمرضاة الله بدون ما يمنعه عمل من غلبت عليه شقوته وأحاطت به خطياته فحاد عن الصراط السوي واتبع غير سبيل المؤمنين لأنه يرى عمله قاصرا عليه لا يستقيم أن يكون حجة على غيره ممن ثبتت براءتهم منه, ولو ربطته بهم لحمة النسب فإنها تسقط مهما سقط النسب (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).

فهكذا تجد الشرع حاكما غير محكوم عليه من أي كان, غير أن الفرد لا يؤاخذ بجريمة غيره (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى), (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ). أما تعميم الحكم على من عرفنا وعلى من لم نعرف, وعلى من عاصرنا وعلى من لم يعاصرنا فهو شيء لم يكن ليتفق مع الدين ولا مع العقل, وهذا لو كان الحكم متجها لعامة المؤمنين, فكيف إذا اتجه لخاصتهم وخاصة خاصتهم, الذين سبقونا بالإيمان ممن أمرنا أن بتعظيمهم واحترامهم, وعلى الأقل بالدعاء إليهم, والترحم عليهم, (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)

إذ الإيمان لا يسمح لنا أن نمس بسوء أي مؤمن كان مهما كان عاملا على ما يطلبه منه الإيمان ونوكل أمره لله فيما وراء ذلك, قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ض) : "من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأحببناه على ذلك, ومن اظهر لنا شرا ظننا به شرا وبغضناه ‏على ذلك".

وهذا أقصى ما يصل إليه علم الإنسان وأولى ما ينبغي له أن يدرج عليه, لأننا لم نتوصل لما يكنه الضمير من جهة سريرة العبد مع ربه ولا نحن مطلوبون بذلك ويشهد لهذا ما يروي في بعض الأحاديث من قوله عليه الصلاة والسلام : أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر", وعليه فيكون المسلم عندنا هو من تظاهر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك من القواعد الخمس, ثم نوكل أمره  إلى الله فيما ما وراء ذلك إذ الحق لا يخولنا أن ننكر منه الإيمان مادام لسان القرآن قائلا (وَلَا تَقُولًوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) إلخ. 

وفي الحديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصمت مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".

فكيف بنا إذا وجدنا أقواما مستغرقين انفاسهم في ذكر كلمة الإخلاص التي جاءت بعصمة الدماء والأموال لقائلها ولو مرة في العمر بدون تعقيب عليه, ما ربما يكون قالها كاذبا, قال عليه الصلاة والسلام : "فهل شققت على قلبه" لمن قتل قائلها ظنا منه انه قالها وقاية لحقن دمه حسبما تدل عليه القرينة ولكن هذا الظن لم يكن كافيا في تبرير عمله عند النبي (ص).

وهل نحن اليوم نرى من إخواننا المسلمين من هو يقولها لمجرد حقن دمه حتى نتساهل في الأخذ من عرضه ؟ فحاشا وكلا, فلا مسلم إلا وهو يقولها بوازع الإيمان إذ لا باعث غيره يبعثه على التلفظ بها فيما يظهر, وعليه فكيف يكون مرورنا بتلك الكلمة المشرفة وبمن امتزجت بلحمه ودمه, فحقه أن يكون كثيرا, روي عن النبي (ص) : "أنه وقف على جماعة من أصحابه فوجدهم يهللون ويكبرون, قال هي هي, فقيل له : ما هي يا رسول الله, قال : كلمة التقوى", فكانوا أحق بها وأهلها. 

‏جعلنا الله والمؤمنين ممن أهلهم لذكره ويسرهم للقيام بواجبها.


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- بيان لا لبس فيه وإيضاح يُعتمد عليه. العدد 39 بتاريخ 07-10-1927.

تعليقات